بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيُّها الأخوة الكرام مع الدرس الرابع عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، وننتقل اليوم إلى موضوعٍ جديد هو مسؤوليّة المربّين ، أو مسؤوليّة الآباء في تربية أولادهم التربية الاجتماعيّة .
Text Box: العناية الفائقة بغرس أصول التربية الاجتماعية عند أولادنا :
كلُّكم يعلم أنّ الإنسان كائنٌ اجتماعيّ ، وأراده الله أن يكون اجتماعيّاً من خلال أنّه جعله مفتقراً في معظم حاجاته إلى أخيه الإنسان ، سمح له أن يتقن شيئاً يرتزق منه ، وهو بحاجةٍ إلى خدمات أخيه الإنسان لذلك لا يعقل أن يعيش الإنسان وحده ، أراده الله سبحانه وتعالى أن يكون اجتماعياً ، ولكن حينما يجتمع الإنسان بأخيه الإنسان يمتحن ، فإمّا أن يرقى وإمّا أن يسقط ، إمّا أن يستحقّ الجنّة لأنّه طبّق منهج الله عزَّ وجلَّ في تعامله مع الآخرين ، وإما أن يستحق النار لأنه خالف منهج الله عز وجل .
قد ذكرت لكم كثيراً أنّ العبادات نوعين ؛ عباداتٍ تعامُليّة ، وعباداتٍ شعائريّة ، العبادات الشعائريّة كالصلاة والصيام والحجّ ، بينما العبادات التعامُليّة العلاقة بينك وبين أخيك الإنسان ، هل أقمتها وفق منهج الله ؟ هل أقمتها وفق ما يرضي الله ؟ هل ائتمرت بما أمر الله سبحانه ؟ هل انتهيت عما نهى الله ، في زواجك ، في عملك ، في كسب المال ، في إنفاق المال ، في أفراحك ، في أحزانك ، في كلّ نشاطات حياتك ؟
أيُّها الأخوة الكرام ، لا بدّ من أن يوجّه الأب أو المربّي عنايةً فائقةً لغرس أصول التربية الاجتماعيّة عند ابنه أو عند تلميذه ، والحقيقة ما دام الإنسان في مجتمع فهو في حاجةٍ ماسةٍ إلى مجموعة خصائص ، وإلا يشقى ويُشقي .
الخاصّة الأولى أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل كتاباً على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيه منهج ، فيه دستور ، افعل ولا تفعل ، المنهج كُلّي والسنّة تفصيليّة ، أنت إن طبّقت منهج الله لن تؤذي أحداً بل سوف تنفع النّاس جميعاً ، لن تكون مبغوضاً ، لن تكون عدوّاً لأحد ، وسيحبُّك الناس جميعاً ، لأنّ منهج الله من عند خالق الكون ، من عند الخبير ، من عند الذي يعلم كلّ شيء ، فمادام الإنسان وفق منهج الله فهو في بحبوحةٍ وفي أمنٍ وسلام ، أمّا إذا خرج ، أي لو مركبة تسير على طريق معبّد ، ما دام الذي يقودها يطبّق تعليمات الصانع فهو على الطريق ، تتحرّك المركبة بسلامةٍ ويسر وراحة ، وتنطلق تطوي الأرض طيّاً ، أمّا إذا غفل عن القيادة أو كان مخموراً أو أساء استخدام الأدوات الموجودة في هذه المركبة ، هوى في الوادي ، طبعاً هذا الذي حدث من خطأ ارتكبه .
Text Box: اتسام حياة المؤمن بالسلام و حياة غير المؤمن بالهلاك :
أنت ما دمت في مجتمع ، وما دمت تطبّق منهج الله في هذا المجتمع لن تجد إلا السلام ، فقد قال ربُّنا عزَّ وجلَّ :
( سورة المائدة : آية " 16 " )
الله عزَّ وجلَّ يهدي الإنسان طريق السلام مع نفسه ، طريق السلام مع أسرته ، مع مجتمعه ، مع أخوانه ، مع من فوقه ، مع من دونه ، مع من في مستواه ، لذلك تتسم حياة المؤمن بالسلام ، وتتسم حياة غير المؤمن بالمفاجآت ، بالمطبّات ، بالهلاك أحياناً .
أولاً ، ما لم يطبّق الإنسان وهو في جماعة منهج الله لن يَسعد ولن يُسِعد ، هذا ما عبّر عنه ربُّنا جلّ جلاله بكلمة التقوى فقد قال تعالى :
( سورة الحجرات : آية " 13 " )
أي أن تتقي أن تعصي الله ، تتقي أن تخرج عن منهجه ، فربّنا عزَّ وجلَّ يقول :
( سورة الطلاق : آية " 2 " )
هذه الآية يمكن أن يكتب عنها مجلّدات ، مثلاً من اتّقى الله في تربية أولاده جعل الله له مخرجاً من عقوق الأولاد ، من اتّقى الله في اختيار زوجته جعل الله له مخرجاً من الشقاء الزوجيّ ، من اتقى الله في كسب المال جعل الله له مخرجاً من ضياع المال ، من اتقى الله فآمن به جعل الله له مخرجاً من الشقاء الدنيويّ والأُخرويّ .
Text Box: منهج خالق الكون أن تتقي الله في تعاملك مع أخيك :
إذاً حينما تتقي الله في تعاملك مع أخيك فهذا المنهج منهج خالق الكون ، فتقف عند حدّك تأخذ مالك وتدع ما ليس لك ، فمشكلات النّاس كلِّهم من أين تأتي ؟ لأنّهم يريدون أن يأخذوا ما ليس لهم ، وأن يمتنعوا عن إعطاء كلِّ ذي حقٍ حقّه ، يمكن أن ترجع مشكلات المجتمع كلّها إلى هذا ، إلى أنّ الإنسان يأخذ ما ليس له ، يتجاوز الحدّ ويطغى .
إذاً قبل كلّ شيء يجب أن ترسّخ في ابنك أو في تلميذك أن يكون وقّافاً عند كلام الله ، وقّافاً عند منهج الله ، هذا حرام لا أقوله ، هذا حلال أسمح لنفسي به ، أما أن تقوم حياة اجتماعيّة بلا منهج ، بلا دستور ، بلا قانون ، قضيّة كيفيّة ، عشوائيّة ، فلا بدّ من الخصومات ، والعداوات ، والمضايقات ، ويلجأُ الناس إلى المحاكم ، وترى عند كلّ قاضٍ آلاف الدعاوى ترحّل من عامٍ إلى عامٍ إلى عام إلى أن يموت أحد المتقاضيين ، أساسها أن كلا الطرفين خرج عن منهج الله .
أخواننا الكرام ، يمكن أن نتأكّد أنّه ما من مشكلةٍ على وجه الأرض إلا ووراءها معصية ، وما من معصيةٍ إلا ووراءها جهل ، فأكبر عدوٍ لنا هو الجهل ، وهو العدو الأوّل رقم واحد ، لأنّ الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوُّه أن يفعله فيه ، فقبل كلّ شيء : إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
ما عبد الله بأفضل من اتّباع ما افترض الله عزَّ وجلَّ ، أعظم عبادة أن تقيم منهج الله عزَّ وجلَّ ، إنَّ الله لا يقبل نافلةً ما لم تؤدَّ الفريضة .
إذاً عرّف بعض العلماء التقوى فقال : أن يراك الله حيث أمرك ، وأن يفقدك حيث نهاك .
أن يراك حيث أمرك ، في ساعة الظهيرة يوم الجمعة أين تكون أنت ؟ في النزهة أم في المسجد ؟ في المسجد ، وأنت في الطريق أمامك امرأةٌ سافرةٌ ، ماذا تفعل ؟ تغضُّ البصر ، أثناء محاسبة البائع ماذا ينبغي أن تفعل ؟ أن تعطيه حقّه ولو نسي بعض المال ، أن يراك حيث أمرك وأن يفقدك حيث نهاك ، هذا بعض تعريفات التقوى .
قال بعضهم : التقوى اتّقاء عذاب الله سبحانه وتعالى بصالح العمل ، والخشية من الله في السّر والعلانية .
Text Box: بعض تعريفات التقوى : :
أخواننا الكرام ، الآيات التي تحدّثت عن التقوى تربو عن ثلاثمئة آية ، التقوى أن تتقي غضبه ، أن تتقي عذابه ، أن تتقي أن تعصيه ، أن تتقي أن تخرج عن منهجه ، أن تتقي أن تتجاوز حدوده ، فأنت من أجل أن تسعد في الدنيا وفي الآخرة عليك بتقوى الله ، ومن أجل أن تنشّئ ابنك تنشئةً صالحةً عليك أن تغرس في نفسه تقوى الله ، يا بنيّ قف عند حدود الله ، هذا منهج ، هذا قانون ، هذا من عند خالق الكون ، افعل ولا تفعل ، فأعظم شيء تصل إليه أن تصل إلى أمر الله ونهيِه ، وأن تحمل نفسك على تطبيق أمر الله وترك نهيِه .
سيّدنا عمر بن الخطّاب عملاق الإسلام له تعريفات رائعة ، فمرّة عرّف التقوى عن طريق سؤال وجواب ، سأل سيدنا أُبيّ بن كعب سيّدنا عمر عن التقوى ، فقال له : أما سلكت طريقاً ذا شوكٍ ؟ قال : بلى ، قال : فما عملت ؟ قال : شمّرت واجتهدت ، قال : فتلك هي التقوى .
إذا كان أحد الأشخاص يمشي في طريق كلّه حفر وأشواك وأكمات وعثرات ، وأفاعٍ مثلاً فكيف يمشي ؟ هل يغمض عينه أم يفتح عينيه ، ويصبح كلُّه أعين ، وكلُّه آذان ، كلُّه حيطة ، وكلُّه حذر ، فشمّر واجتهد .
أنت راقب سائق سيّارة في الضباب وبالليل ، تجده يقترب للأمام نحو الزجاج ولا يستند من قلقه ، ويتفحّص الطريق شبراً شِبراً ، ويتأهّب لأيّة مفاجأة ، هذه هي التقوى ، أن تسير وكلُّك أعين ، وكلُّك آذان ، وكلُّك توقُّع .
قال بعضهم : التقوى حساسيةٌ في الضمير ، حساسيةٌ في الشعور ، خشيةٌ مستمرّة وحذرٌ بيّن ، توقٍ لأشواك الطريق ، طريق الحياة .
أيُّها الأخوة ، النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول :
(( التقوى ها هنا . وأشار إلى صدره الشريف )).
[ رواه مسلم عن أبي هريرة ]
معنى التقوى : أنّها رغبة قويّة في ذات الإنسان أن يطيع الله ، مادام قال : ها هنا وهنا القلب ، والذي يرغب هو القلب ، رغبةً قويّةً في تنفيذ أمر الله عزَّ وجلَّ ، وثانياً نورٌ يقذفه الله في قلب الإنسان يريه الحقَّ حقّاً والباطل باطلاً .
Text Box: نماذج من المتقين :
اسمعوا أيُّها الأخوة إلى نماذج من المتّقين . قال يروي الغزالي في إحيائه أنّه كان عند يونسَ بن عبيد حُللٌ مختلفة ، أي ثياب ، يبيع الثياب ، مختلفة الأثمان منها نوعٌ قيمته بأربعمئة درهم ونوعٌ قيمته بمئتين ، فذهب إلى الصلاة وخلَّف ابن أخيه في الدكّان ، جاء أعرابيّ وطلب حُلَلاً بأربعمئة ، فعرض عليه ابن أخيه حُلًّة بمئتين فاستحسنها الأعرابي ورضيها واشتراها بأربعمئة درهم ، فمشى بها وهي على يديه ، يونس صاحب الدكّان خرج من المسجد فإذا بأعرابيٍ يحمل حُلّةً من دكّانه ، فعرف أنّها حُلّته فقال للأعرابيِّ : بكم اشتريت هذه الحُلَّة ؟ قال : بأربعمئة . قال : هذه الحُلَّة لا تساوي أكثر من مئتين فارجع حتّى ترُدّها ، قال : هذه تساوي في بلدنا خمسمئة درهم ، وأنا ارتضيتها ، قال له يونس : انصرف معي ، فإنّ النّصح في الدين خيرٌ من الدنيا وما فيها ، ثمّ ردّه إلى الدكّان ، وردّ عليه مئتي درهم وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله ، قال : أما استحييت ، أما اتقيت الله ؟ تربح مثل الثمن وتدع النُصح للمسلمين ، فقال : والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها ، قال : هلا ارتضيت له أنت ما ترضاه لنفسك ؟ هذه هي التقوى ، هكذا البائع المسلم لا يغش أو يدلّس أو يكذب ، طاعة الله أغلى عليه من الدنيا وما فيها من ثروة الأرض ، من أكبر غلّةٍ في الدنيا ، طاعة الله ، يجب أن نربّي أبناءنا هكذا .
قصّةً تعرفونها جميعاً أقولها كثيراً ، قال عبد الله بن دينار : خرجت مع عمر بن الخطّاب إلى مكّة ، فعرّجنا في بعض الطريق ، أي استرحنا ، فانحدر بنا راعٍ من الجبل فقال له : يا راعي بعني شاةً من هذا الغنم ، قال : إنّي مملوك ، قال له اختباراً : قل لسيّدك أكلها الذئبُ ، فقال الراعي : فأين الله ؟
هذه ليس لها حلٌ ، الآن مستعد أن يحلف يميناً كذباً غموساً حتّى يأخذ الدكّان ، اختلف الوضع ، فقد قال تعالى :
( سورة مريم : آية " 59 " )
قد لقي المسلمون ذلك ، كان السلف الصالح يقول : ألف غلبة ولا قلبة ، أما الآن يقولون : ألف قلبة ولا غلبة ، كان السلف الصالح يقول : المنيّة ولا الدنيّة ، الآن يقولون : الدنيّة ولا المنيّة .
شاعر دخل السجن في عهد عمر لأنّه قال لرجل :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
***
هذا شعار كلّ إنسان في آخر الزمان .
البنت التي أرادت أن تنصح أمُّها عندما أقدمت على خلط الحليب بالماء في عهد عمر ، وقالت الأم : إنّ عمر لا يرانا يا بنيّتي . فقالت : إنّ ربّ عمر يرانا ، هذه التقوى .
Text Box: غرس تقوى الله في نفوس أبنائنا :
أيُّها الأخوة ، المربي أهمّ وظيفة له ، المربّي أو الأب إذا أراد أن ينشّئ أولاده تنشئةً اجتماعيّةً عليه أن يغرس فيهم تقوى الله ، أي الخوف من الله .
قد يسأل سائل : كيف نخاف من الله ؟ الجواب : يجب أن تؤمن أنّه يعلم وسيُحاسب ، أن تؤمن باسم الله العليم ، واسم الله القدير ، والله سبحانه وتعالى يقول :
( سورة الطلاق : آية " 12 " )
أي إذا أيقنت أنّ الله يعلم وسيحاسب وهو قدير لا بدّ من أن تستقيم على أمره ، لأنّك إن أيقنت أنّ إنساناً من بني جلدتك ، من بني البشر ، يحاسب ويقدر أن يوقع بك الأذى لا يمكن أن تعصيه أبداً ، فكيف بخالق الكون ؟
طبعاً البحث طويلٌ ، موضوع التقوى هو الدين كلُّه في الحقيقة ، ولكن كلما غرست في نفس ابنك أنّه لا بد من أن يأتمر بأمر الله وإلا سيكون الثمن باهظاً ، لا بد من أن ينتهي عن ما نهى الله عنه وإلا الثمن باهظ ، إذا غرست في قلب ابنك أو تلميذك الخوف من الله انتهى كلّ شيء ، فطبّق منهج الله فسعد وأسعد .
Text Box: الأخوة الإيمانيّة تعني أن يشعر المسلم أنّه أخٌ لكلِّ مسلم :
العامل الثاني في التربية الاجتماعيّة موضوع الأخوة الإيمانيّة ، فالعجب العجاب أنّ الإسلام ممتدّ الرقعة يشغل الآن معظم بعض القارّات ، والعدد يزيد على خُمسِ سكّان العالم ، لكن معنى الأخوة الإسلاميّة غير واضحٍ ، أي أن توجد الخصومات والعداوات ، حتّى بين من يعملون في الحقل الدينيّ ، إلا أنّ الأخوة الإيمانيّة تعني ، أن يشعر المسلم أنّه أخٌ لكلِّ مسلم ، أخ بكلِّ ما في هذه الكلمة من معنى ، إذا شعرت أنّك أَخٌ لأخيك لن تأكل ماله ، لن تنال من عرضه ، لن تحقره ، لن تسلمه ، لن تغتابه ، لن تؤذيه أبداً ، أشعِره أنّه أخ أقرب لك ، إذا وجدت أسرةً متماسكةً جداً فكيف يكون شعور الأخ تجاه أخيه ؟ يتمنّى له كلّ خير ، أولاً قال تعالى :
( سورة الحجرات : آية " 10 " )
هذا التركيب اسمي أم فعلي ؟ أجيبوني ، اسمي ، ما معنى التركيب الاسمي ؟ إذا قلت : دخل أخٌ إلى الحرم ، هذا التركيب فعلي ، إذا قلت : فلان طويل ، هذا التركيب اسمي فماذا يعني التركيب الاسمي ؟ يعني : الثبات والاستمرار ، وماذا يعني التركيب الفعلي ؟ يعني : الحدوث والانقطاع .
Text Box: العلاقة بين المؤمنين علاقة ثابتة ودائمة وأبديّة : :
ربّنا عزَّ وجلَّ وصف العلاقة بين المؤمنين بجملةٍ اسميّة ، أي أن هذه العلاقة ثابتة ودائمة وأبديّة قال تعالى :
(سورة الحجرات : آية " 10 ")
ما لم تشعر بهذه الأخوة فلست مؤمناً ، وينبغي أن لا تنتمي إلى بعض المؤمنين ، ولا إلى جماعةٍ ، بل إلى مجموع المؤمنين ، كُّل من عرف الله عزَّ وجلَّ وطبّق منهجه وسعى للدار الآخرة فهو أخوك حقّاً ، لذلك قال الله عزَّ وجلَّ :
( سورة الشعراء : آية " 215 " )
والآية الثانية :
( سورة الحجر : آية " 88 " )
الفرق بينهما الخصوص والعموم ، أي تعليم ، بالتبعيّة نحن نتعلّم ، يجب أن تشعر بالأخوة تجاه كلّ مؤمنٍ على وجه الأرض كي تكون مؤمناً ، وإلا فلست بمؤمن قال تعالى :
( سورة آل عمران : آية " 103 " )
Text Box: نصوص من السُّنة الشريفة عن الأخوة في الله :
والله أيُّها الأخوة هذا الحديث الذي سأتلوه على مسامعكم لا أشبع منه :
(( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره ، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كلُّ المسلم على المسلم حرام ، دمُه وماله وعرضه ، التقوى ها هنا . وأشار إلى صدره الشريف )).
[ رواه مسلم عن أبي هريرة ]
معنى العرض : موطن المدح والذمّ في الإنسان ، أي أربى الربا أن تستطيل في عرض أخيك المسلم ، تتكلّم عنه كلاماً غير صحيحٍ فقد بهتّه بقولك ، ولو كان صحيحاً فقد اغتبته :
(( لا يؤمن أحدكم حتّى يُحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه )).
[ متفق عليه عن أنس]
نصوص سهل علينا جداً أن نقرأها ، وسهل أن نستمع إلى شرحها ، لكنّ البطولة أن تعيشها ، أن تحبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك ، لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه.
(( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )) .
[ أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير ، واللفظ لمسلم ]
وروى مسلمٌ في صحيحه أنّ الله تعالى يقول يوم القيامة :
(( أين المتحابّون في جلالي ؟ اليوم أُظِلُّهم في ظِلّي يوم لا ظِلّ إلا ظلّي )).
[ رواه أحمد عن أبي هريرة ]
Text Box: أجمل ما في الحياة أن تنعم بأخ لك في الله يبادلك الود والوفاء والإخلاص :
أيُّها الأخوة الكرام ، والله أنا العبد الفقير حينما أرى الأخوة الكرام متعاونين ، ومتحابّين ، ومتماسكين ، ويدافع بعضهم عن بعض ، ويعاون بعضهم بعضاً ، والله أشعر أنّ الله يحبُّنا جميعاً ، وحينما أرى من بعضهم الحسد ، والغيرة ، والعداوة ، والبغضاء ، والطعن، والازدراء والله أشعر أنّ كلّ عملنا يحبطه الله عزَّ وجلَّ ، وأنّ يدَ الله مع الجماعة ، ومن شذّ شذَّ في النار ، عليكم بالجماعة ، عليكم بالأخوة الصادقة .
والله لا أُبالغ إنّ أسعد ما في الحياة أن تنعم بأخٍ في الله يبادلك الود والوفاء والإخلاص والتعاون ، وأنت قويٌ بأخيك والحياة بلا أُخوّة والله موحشة ، الحياة لا تعاش بلا أخ في الله ، كما أنّها لا تعاش بلا قيم فأجمل شيء في هذه الحياة أن ترى أخاً إلى جانبك ، معك في السرّاء والضرّاء ، واثقاً منك ، يدافع عنك ، يعينك .
نماذج من مجتمع الصحابة الكرام ، روى الحاكم في المستدرك أنّ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعث بثمانين ألف درهم إلى عائشة رضي الله عنها وكانت صائمة وعليها ثوبٌ خَلِق ، فوزّعت هذا المال من ساعتها على الفقراء والمساكين ولم تبقِ منه شيئاً ، فقالت لها خادمتها : يا أُمّ المؤمنين ما استطعت أن تشتري لنا لحماً بدرهمٍ تفطرين عليه ؟ قالت : يا بنيّتي لو ذكّرتني لفعلت .
ثمانون ألف درهم أنفقتها على الفقراء والمساكين ونسيت نفسها ، الآن معظم الناس يعيشون لذاتهم ، كلّ نشاطه من أجل مصالحه الشخصيّة ، لكن والله لا نسعد إلا إذا أسعدنا الآخرين ، والله قد حدّثني طبيب قال لي كلمة أثّرت في نفسي : والله حينما أُجري عمليّة ، أقسم بالله ، وتنجح هذه العمليّة نجاحاً باهراً ، وأرى البسمة والسعادة على فمّ أو على وجه المريض وأهله وأولاده من حوله ، والله أشعر أنّي ملكت الدنيا .
والله المؤمن الصادق إذا أدخل السرور على قلب أخيه المؤمن ، حلّ له مشكلته ، أو أعانه في موضوع معيّن ، أزاح عنه كآبة ، نفّس عنه كُربة ، يشعر بحاله قد صار في السماء ، فقد قال لي أخ صديق : أنا كنت أقود سيّارتي قادماً بها من الزبداني إلى دمشق في أحد أيّام الصيف ، في الساعة الثانية عشرة ليلاً كان في دمّر ، فرأى امرأة تحمل صغيراً وإلى جانبها رجل وكأنّهما في قلقٍ وحيرة ، فأوقف سيّارته وقال لهم : أية خدمة ؟ كانت حرارة الطفل 41 درجة مئويّة ، وهذا الزوج والزوجة غريبان عن البلد أثناء أحداث لبنان ، فأخذهما إلى طبيب ، ثمّ إلى مستشفى من أجل الحقن ، وقال لي : وما انتهيت من عملي إلا في الساعة الرابعة من فجر ذلك اليوم أي أربع ساعات ، ويقسم هذا الأخ الكريم أنّه بقي أسبوعين مغموساً في سعادةٍ لا توصف .
Text Box: نماذج من المجتمع الإسلامي عن الأخوة في الله :
قال النبيّ الكريم :
(( الخلق كلّهم عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله )).
[رواه أبو يعلى عن ابن مسعود]
إنّك لا تعرف لو أنت قدّمت وعاونت أخوانك أو عاونت البشر جميعاً ، أو عاونت حتّى المخلوقات العجماويّة ، كم تسعد ؟ السيّدة عائشة أعطت ثمانين ألف درهمٍ ووزّعتها على الفقراء والمساكين ، ونسيت نفسها وهي صائمة .
روى الطبرانيُّ في الكبير أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أخذ أربعمئة دينار فجعلها في صُرّةٍ وقال لغلامه : اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ، ثمّ تشاغل في البيت ساعةً حتّى تنظر ماذا يصنع ؟ فذهب بها الغلام إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك ، فقال أبو عبيدة : وصل الله عمر ورحمه ، ثمّ قال : تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان ، وبهذه الخمسة إلى فلان ، وبهذه الخمسة إلى فلان ، حتّى وزّعها كلها ، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل ، فقال : اذهب بها إلى معاذ وتشاغل في البيت ساعة حتّى تنظر ماذا يصنع ؟ فذهب بها إليه فقال الغلام : يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك ، فقال : رحمه الله ووصله ، تعالي يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا ، وإلى بيت فلان بكذا ، فاطلعت امرأة معاذ وقالت له : نحن والله مساكين فأعطنا ، فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فرمى بهما إليها ، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره ، فسُرّ بذلك فقال : إنّهم إخوةٌ بعضهم من بعض .
أخ من أخواننا الكرام له باع طويل في الأعمال الصالحة حدّثني قبل يومين قال لي : قبل اثنين وعشرين عاماً كنت ذاهباً إلى بيتي الساعة الثانية عشرة ليلاً رأيت سيّارة كبيرة فيها حاجات منزل ، شيء يلفت النظر ، فالإنسان ينتقل في النهار وينقل حاجاته في النهار ، فلماذا في الليل في الساعة الثانية عشرة ؟ قال : تقدّمت من سائق السيّارة فعرفته ، فسألته : ما القصّة ؟ قال : والله رجل أُخلي من بيته ونفّذ الحكم فيه ، وليس له بيت ، فهذه أغراضه نقلناها إلى بيتِ أهل زوجته والبيت صغير جدّاً لا يتّسع لها ، يقول هذا الأخ الكريم وأقسم بالله لي : أنّه في هذه الليلة ما ذاق طعم النوم ، إنسان حكم عليه بالإخلاء ، وحاجاته كثيرة وليس لها مكان ، أين ينام ؟ أين تنام زوجته ؟ أين ينام أولاده ؟ قال لي : في الليل فكّرت إن فلاناً غني وفلاناً وفُلاناً ، فكتب ثمانية أسماء ، وفي اليوم التالي ذهب إليهم واحداً تلو الآخر وأخذ من كل واحدٍ منهم خمسة آلاف ، والقصّة قديمة جداً ، فأصبح المجموع أربعين ألفاً ، وقد جمعهم في نصف ساعة ، ذهب إلى دكّانه وكان عنده شخص يأتيه أحياناً فقال له : هل حولك بيتٌ في المهاجرين ؟ لأنّ الشخص مُخلى في المهاجرين ، فقال له : نعم فقد حضرنا أمس بازار بيتٍ ودفع ثمناً له تسعة وثلاثين ألفاً ولم يرض صاحبه فهو يريد أربعين ألفاً ، ولكن البيت ممتازٌ ، فقال له : قم وخذني إليه الآن ، ذهب إليه فقال له صاحب البيت : أقلّ من أربعين ألفاً بليرة لن أبيعه ، فقال له : هذه أربعون ألفاً واكتب عقد البيع القطعي ، كتب العقد وأُخذ المفتاح ، وذهب للذي أُخلي من بيته ، وقال له : اذهب إلى هذا البيت وهذا مفتاحه وهذا عقد شرائه ، طبعاً الذي باع البيت عندما علم بالقصّة دفع خمسة آلاف ، أرجعها من ثمن البيت ، قال لي : في أقلّ من أربع وعشرين ساعة ، حوالي اثنتي عشرة ساعةً كانت قد حُلّت القضيّة .
Text Box: فتح أصحاب النبي الكريم العالم بالرحمة التي في قلوبهم : :
عندما يرى ربّنا عزَّ وجلَّ أنّ الإنسان يحبّ أخوانه ويحبّ أن يخدم الناس فالله يعينه ، الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، إذا كان في قلب الإنسان رحمة وأراد أن ينفع الناس ، الله يمكّنه من نفعهم ، يعطيك ، لأنّه إذا أراد ربُّك إظهار فضله عليك ، خلق الفضل ونسبه إليك ، طبعاً سيّدنا عثمان بن عفّان الذي قال عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم .
سيّدنا عثمان بن عفّان في عهد عمر أصاب الناس قحطٌ وشدّة ، وكانت قافلة من الشام مكوّنة من ألف جمل عليها من أصناف الطعام واللباس ، وحينما وصلت تراكض التجّار عليه يطلبون أن يبيعهم هذه القافلة فقال لهم : كم تعطونني ربحاً ؟ قالوا : خمسة في المئة ، هذا عقد مرابحة ، قال : إني وجدت من يعطيني أكثر ، فقالوا : ما نعلم في التجّار من يدفع أكثر من هذا الربح ؟ قال لهم عثمان : إنّي وجدّت من يعطيني على الدرهم سبعمئة ، إنّي وجدت الله عزَّ وجلَّ يقول :
( سورة البقرة : آية : "261 " )
أُشهدكم يا معشر التجّار أنّ القافلة ، وما فيها من بُرٍ ودقيقٍ وزيتٍ وسمنٍ قد وهبتها لفقراء المدينة وأنّها صدقةٌ على المسلمين .
ماذا يعني ألف جمل ؟ أي ألف شاحنة ، فهل ألف شاحنة عدد قليل ؟ أحياناً تكون مسافراً تجد مجموعة شاحنات حوالي الخمسين كلّهم ، وتمشي بجوارهم ولا ينتهون ، فما قولك بألف جمل ، وسيّدنا عثمان كان من كبار أغنياء الصحابة ، بماذا فتح أصحاب النبيّ العالم ؟ بهذه الرحمة التي في قلوبهم ، ولو تراحمنا لرحمنا الله عزَّ وجلَّ .
Text Box: الدين المعاملة :
توجد قصص مؤلمة جداً ، كلّها قسوة ، وتوجد قصص تنعشنا فيها رحمة ، وهذه البلدة بلدةٌ طيّبة لا تخلو من أهل الخير .
(( لقد أتى علينا زمانٌ وما أحدٌ أحقُّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم )).
[البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما]
أعرف بعض الأخوة الكرام لهم أخ فقير طالب علم ، لم يجد عملاً ، قاموا بزيارته ، وطلبوا منه أن يشربوا ، ذهب لإحضار الماء إليهم فوضعوا في جيبه بعضاً من المال ودون أن يشعر ، ولا يدري من أين هذا المال ومن أين جاءه ؟ لم يقطعوه أبداً .
هل لنا أعمالٌ كهذه ، هل كان أخوك بحاجة فعاونته وأمددته بالمال ، الحقيقة الدين هكذا ، الدين المعاملة .
يوجد عندنا شيء آخر ، فأوّل شيء : يجب أن تغرس تقوى الله في نفس ابنك أو تلميذك ، والشيء الثاني : يجب أن تغرس فيه الأخوة الصادقة مع أخوانه المؤمنين ، فأنت عضو في جماعة ، أنتم أُسرة واحدة ويؤكّد هذا أنّ فاطمة الزهراء رضي الله عنها طلبت من النبيّ خادماً لها فمن هو النبي ؟ سيِّدُ هذه الأمّة وأعلى إنسان فيها ، أقوى إنسان ، أي أنّه بإمكانه أن يعطيها أكبر بيتٍ وجيشاً من الخدم ، فماذا قال لها ؟ قال : والله يا بنيّتي لا أؤثرك على فقراء المسلمين .
معنى ذلك أنّ النبيّ عدّ المسلمين أُسرة واحدة ، ولم يعطِ فاطمة شيئاً يزيد على فقراء المسلمين ، قال : والله يا بنيّتي لا أؤثرك على فقراء المسلمين ، لهذا قال النبيّ عليه الصلاة والسلام :
(( والله ما آمن ، والله ما آمن ، والله ما آمن من بات شبعان وجاره جائع إلى جانبه وهو يعلم .))
[رواه الطبراني عن ابن عباس]
Text Box: حجم رحمتك بحجم اتصالك بالله :
في الحقيقة قد يسأل سائل : الأخذ فيه لذّة ، والعطاء فيه لذّة ، فافحص نفسك إذا كنت تسعد بالعطاء فأنت من أهل الآخرة ، وإذا كنت تسعد بالأخذ فقط فأنت من أهل الدنيا ، والمؤمن الصادق يسعد بالعطاء .
الشيء الثالث في التربية الاجتماعيّة : أن نغرس في نفوس أبنائنا أو طلاّبنا الرحمة ، وكما أقول لكم دائماً إذا وجد للرحمة مؤشّر ، وللإيمان مؤشّر ، هذان المؤشّران يتحرّكان معاً ، فمؤشّر الرحمة يتحرّك مع مؤشّر الإيمان ، فأنت ترحم الناس بقدر ما في قلبك من الإيمان ، وكلّما ضعف الإيمان ضعفت الرحمة ، فإذا أردت أن تعرف مستوى إيمانك فانظر إلى الرحمة التي في قلبك .
سأستدرك عليكم هذه الحقيقة ، فالرحمة ليست لأولادك فهذا شيء بديهي وفطرت عليه وقد أودعه الله فيك كي تستمرّ الحياة ، فأي أم فاسقة أو فاجرة أو مستقيمة أو مؤمنة ، متعلّمة أو جاهلة ، مثقّفة أو غير مثقّفة ، الأم أم ، لكن الذي أتحدّث عنه لا أن ترحم أبناءك ، بل أن ترحم الناس جميعاً ، الرحمة العامّة ، طبعاً هذه الرحمة تقتبس من الله في أثناء الاتصال به ، فأنت رحيم بقدر اتصالك بالله عزَّ وجلَّ ، أي أنّ حجم رحمتك بحجم اتصالك بالله :
((الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
[رواه الترمذيّ وأبو داوود أحمد عن عمرو بن العاص ]
الحديث الآخر المخيف يقول عليه الصلاة والسلام أيضاً في ما رواه الإمام الترمذيّ وأبو داوود ، فكلّما كانت القسوة موجّهة إلى إنسان ضعيف فالجرم أكبر ، أي أنّ المرأة ضعيفة أحياناً فممكن أن تضربها ضرباً مبرحاً ، أو أن تطردها من البيت ليلاً ولا أحد معها ، فمعنى ذلك أنّ الإيمان معدومٌ ، صفرٌ ، المؤمن رقيق القلب ، لا يحتمل أن يرى مشقّةً على إنسان ، والحديث الثالث الدقيق رواه الإمام الطبراني :
(( لن تؤمنوا حتّى تراحموا . قالوا : يا رسول الله كُلُّنا رحيم . قال : ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنّها رحمةُ العامّة )).
[رواه الطبراني عن أبي موسى ]
Text Box: من لا يَرْحم لا يُرحم :
أنت رحمتك ليست لابنك ، بل للصانع الذي يعمل عندك في المحل ، هل ترحمه وتريحه قليلاً من مشقّة العمل ، هل تعطيه شيئاً من حقوقه ؟ هل تسمح له بأن يدرس ؟ أم تقول : إذا تعلّم الصانع يهرب من عمله ، خيراً إن شاء الله ، لماذا تريد أن يكون ابنك طبيباً وتعطيه دروساً خاصّة بثلاثين ألف ليرة ، لا شيء عليك فهذا ابنك ، إذا كان عندك إمكانيّة ترحم ابنك فقط وتقسو على الناس ، إذاً أنت لست مؤمناً على الإطلاق ضع عباداتك بالحاوية وارتح ، فما معنى مؤمن ؟ معناها أن يكون عندك رحمةٌ على الناّس كرحمتك على أولادك ، هل عندك استعداد أن تعامل زوجة ابنك كابنتك في البيت ؟ إذا فعلت فأنت مؤمن ، هل ترحمها وتقدّر ظروفها ، تتغافل عن أخطائها ، وتحسن الظّن بها ، أم يكون حساباً عسيراً لزوجة الابن وتسامحاً لابنتك ، فهذا الكلام ليس معقولاً ، معنى ذلك لا توجد رحمةٌ إطلاقاً .
أخواننا الكرام حتّى لا يضيّع أحد وقته فليمتحن نفسه بالرحمة ، فإذا لم توجد الرحمة فالطريق إلى الله مسدودة ، إن لم ينفطر قلبك لرؤية منظر البؤس والشقاء والحرمان وأنت تعيش في بحبوحة فو الله ليس لك عند الله شيء ، إلى أن تعطي ، إلى أن ترحم ، إلى أن تقدّم من ذات نفسك ، لو أنّ المسلمين الذين كانوا في عهد النبيّ فعلوا كما يفعل النّاس اليوم ، تجد شابّاً يتلوّى على غرفة ليتزوّج فيها ، وتجد بالمقابل سبعمئة ألف بيتٍ مغلقاً ، تجد قصراً أو فيلا في منطقة اصطياف كلّفت ثلاثين مليوناً من أجل أسبوعين فقط ، وثلاثين ألف شابٍّ يتمنّون غرفة خارج دمشق ولا يجدون .
إذا لم نتراحم فالمشكلة ستصبح كبيرة جدّاً ، الأغنياء أوصيائي والفقراء عيالي ، فمن حرم مالي عيالي أذقته عذابي ولا أُبالي .
إذا لم نتراحم ونُؤمّن أولادنا وشبابنا ، وزوّجناهم ، وأمّنا الأعمال لهم وتساهلنا قليلاً ، فقد ذكرت لكم مرّةً عن بنتٍ وقفت أمام أبيها وهو في النزع الأخير وقالت له : حرََمك الله الجنّة كما حرمتني من نعمة الأولاد ، لم يكن يوافق على أي زوج يتقدم لها ، فهو يريد زوجاً يفتخر به ، فلم يجد ذلك الزوج فبقيت ابنته عانساً ، فالأب يجب أن يرحم ابنته ، وأن يرحم أولاده ، يرحم من يعمل لديه في المعمل ، أو إذا عنده موظّفون في المحل التجاري ، فهذا إنسان له مشاعر ويحتاج إلى أشياء أساسيّة ، تقول : يكفيه ما أعطيه من المال ، فهل يكفيك أنت هذا الراتب ؟ قال لي أحدهم : والله أنا أشتري لصاحب العمل باليوم ما يساوي معاشات سنة ، يعطيه معاشاً ثلاثة آلاف في الشهر ، وأنا موكّل بشراء الحاجات له ، فأنا أشتري له في يومٍ واحدٍ ما آخذه منه في عامٍ ، فإذا الإنسان لم يرحم فالله لا يرحمه ، كن منصفاً ورحيماً فالمكسب أن تكسب أخاك ، فأخوك هو المكسب .
Text Box: المغفرة ليست على حجم العمل بل على حجم النوايا : :
هل تصدّقون أنّ امرأةً بغيّاً قد غفر الله لها لأنّها سقت كلباً ، رحمت كلباً يأكل الثرى من العطش ، قالت : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل ما بلغني ، نزلت البئر وملأت خُفّها ماءً وسقت الكلب ، فغفر الله لها ، قد تقولون : هل يعقل ذلك ؟ المغفرة ليست على حجم العمل بل على حجم النوايا ، فلقد رقّ قلبها لهذا الكلب فسقته ، فكانت توبتها بهذا ، وعند الله الصلحة بلمحة .
بالمقابل امرأةٌ حبست هرّةً حتّى ماتت ، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ، هذه المرأة استحقّت النار .
(( دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ )) .
[ مُتَّفَقٌ عَلَيْه عن ابن عمر رضي الله عنهما ]
رأى عمر رجلاً يسحب شاةً برجلها ليذبحها ، فقال له سيّدنا عمر : ويلك ، قُدها إلى الموت قوداً جميلاً ، أحياناً تجد بعض القصّابين قاسياً جدّاً يسحب الشاة من رجلها ورأسها على الأرض ليذبحها ، ويقول : سنذبحها وإن تألمت .
عندما رأى النبيّ عليه الصلاة والسلام رجلاً يذبح شاةً أمام أُختها وبّخه ، وقال :
هلاّ حجبتها عن أُختها أتريد أن تميتها مرّتين .
من نماذج الرحمة التي في قلب المسلمين ، كلّكم تعرفون سيّدنا صلاح الدين ، جاءته امرأةٌ من العدو فقدت وليدها ، فوقف ولم يجلس حتّى عاد وليدها فهي أم وإن كانت عدوة .
أيُّها الأخوة الكرام ، من أمثلة الرحمة التي كانت في قلوب المسلمين ولعهم بالأوقاف الخيريّة ، فمثلاً ماذا تعني كلمة المرجة ؟ كانت هذه الأرض مرجاً من الحشائش وكان المرج وقفاً لكلّ دابّةٍ مريضة تأكل وتشرب وتستريح ، كذلك كان يوجد وقفٌ للكلاب الضّالة توضع في أماكن مخصوصة للرعاية استنقاذاً لها من عذاب الجوع حتى تستريح بالموت ، وقف الأعراس ، كان بعض رجال الخير يقفون ثياباً فخمة وحلياً للفقيرات حين الزواج ، فترتدي أفخر الثياب وأجمل الحلي ، وهذه تنتقل من فتاة إلى فتاة ، وقف العصرونيّة كان كلّ غلام أو خادم سيده قاسٍ جدّاً ، وكُسِر معه إناء فيأخذ قطعةً من الإناء المكسور للوقف فيعطوه إناءً جديداً وبذلك قد حُلّت مشكلة ، فأحياناً كسر آنية يسبب مشكلةً كبيرة جدّاً .
توجد أوقاف كثيرة منها : إطعام الجياع ، وسقاية الظمآن ، وكسوة العاري ، إيواء الغريب ، ومعالجة المريض ، وتعليم الجاهل ، ودفن الميّت ، وكفالة اليتيم ، وإغاثة الملهوف ، ومواساة العاجز ، والآن في الحقيقة عندنا مشاريع طيّبة جداً ، فأنا في رمضان الماضي قد زرت ميتمين ، والله شيء يدعو للفخر ، وشيء جميل جدّاً ، بناء حديث وأسرّة ، وقاعات للطعام ، وللتدريس ، فيتلقّى هذا اليتيم أعلى درجةٍ من العناية , ويوجد أهل خير كثيرون ، وهذا دليل الرّحمة فإذا نحن تراحمنا فالله يرحمنا جميعاً , وإذا لم نتراحم نستحقُّ سخط الله جميعاً .
Text Box: أساس التربية الاجتماعية التقوى والأخوة الإيمانية والرحمة :
أيُّها الأخوة درس اليوم التربية الاجتماعيّة أساسها التقوى ، وأساسها الأخوة الإيمانيّة ، وأساسها كذلك الرحمة ، فإذا توافرت التقوى أي طاعة الله ، وأن يقف الإنسان عند أمر الله ونهيه ، وأن يشعر بأُخوّته للمؤمنين ، وأن يكون قلبه رحيماً ، فشيء طبيعيّ جدّاً أن ترى الحياة الاجتماعيّة قطعةً من الجنّة ، لذلك فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم :
(( إذا كان أمراؤكم خياركم ، وأغنياؤكم سمحاءكم ، وأمركم شورى بينكم ، فظهر الأرض خير لكم من بطنها ، وإذا كان أمراؤكم شراركم ، وأغنياؤكم بخلائكم ، وأمركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها )).
[ الترمذي عن أبي هريرة ]
لا تقل : إنّ كلّ الناس قد فسدوا ، فمن قال هلك النّاس فهو أهلكهم ، لا فالبُنية بخير ، والله يوجد أُخوة كرام وطيّبون ينفقون أموالهم بالليل والنهار ـ وأعرف ذلك ـ ومتواضعون ، ولا يحبّون أن يعلم بهم أحد ، هذه بلدةٌ طيّبة ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( رأيت عمود الإسلام قد سلّ من تحت وسادتي ، فأتبعته بصري فإذا هو بالشام )).
[ الطبراني والحاكم عن ابن عمرو ]
(( الشام صفوة الله من بلاده ، إليها يجتبي صفوته من عباده فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطة ، ومن دخلها من غيرها فبرحمة )).
[الجامع الصغير عن أبي أمامة رضي الله عنه بإسناد ضعيف]
(( فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها : الغوطة ، فيها مدينة يقال لها : دمشق ، خير منازل المسلمين يومئذ )).
[ رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي الدرداء]
طوبى لمن له فيها مربط شاة ، فنحن بخير والحمد لله ، لكن يجب أن ننمّي هذا الخير ، ننمّي العلاقات ، ننمّي الأخوة ، أن نزيد اتصالنا بالله عزَّ وجلَّ حتّى تزداد الرحمة في قلوبنا ، حتّى نتراحم ، هذا الذي أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون واضحاً عندكم .
لا زلنا في موضوع التربية الاجتماعيّة ، وهناك موضوع الإيثار نبحثه في الدرس القادم إن شاء الله تعالى ، وموضوع العفو ، وموضوع الجرأة ، وهذه كلُّها تحت موضوعٍ واحد ، غرس الأسس النفسيّة للطفل حتّى يكون أهلاً لأن يعيش الحياة الاجتماعيّة ، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علّمنا ، وأن يُلهمنا تعليم النّاس الخير .
والحمد لله رب العالمين