بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس الثاني والعشرين من دروس الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ومع أهل بيت النبي زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين ، ومع الزوجة الرزينة زينب بنت خزيمة العفيفة الكريمة التي كانت أم المساكين ، لأنها كانت تطعمهم ، وتتصدق عليهم .
هي زنيب بنت خزيمة أم المؤمنين زوج النبي عليه أتم الصلاة والتسليم ، ولدت قبل البعثة في مكة بثلاثة عشر سنة ، وكانت زوجة عبد الله بنت جحش الذي استشهد بأحد ، فخطبها النبي عليه الصلاة والسلام بعد انقضاء عدتها إلى نفسها ، فجعلت أمرها إليه ، فتزوجها في رمضان سنة ثلاث من الهجرة بعد حفصة ، أقامت عند النبي ثمانية أشهر ، وتوفيت في شهر ربيع الآخر سنة أربع للهجرة ، وعاشت خمسين سنة ، رضي الله عنها وأرضاها .
أولاً هناك تعليق على عمر الإنسان ، هناك عمر مديد ، وهناك عمر قصير ، ثلاثون سنة ، والحقيقة أن العمر الزمني هو أتفه أعمار الإنسان ، ولا قيمة له إطلاقاً ، هناك العمر الإيماني ، هناك عمر ممتلئ بالأعمال الصالحة ، النبي عليه الصلاة والسلام عاش ثلاثاً وستين عاماً ، في هذه الأعوام أقسم الله جلّ جلاله بعمره ، قال :
(سورة الحجر)
ما هذا العمر الذي حقق فيه نشر الخير ، والعدل ، والفضيلة ، والسعادة في كل أرجاء الدنيا ! يعني الله عز وجل حينما يخاطب النبي يقول :
(سورة الضحى)
إنّ الله جلّ جلاله يتودد إلى هذا النبي الكريم ، ماذا فعل هذا الإنسان ! أيها الإخوة ... عاش ثلاثاً وستين عاماً ، فالإنسان يقاس عمره بعمله الصالح ، وحجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، أنا أتمنى على كل أخ أن يسأل هذا السؤال : ماذا قدمت للآخرة ؟ ماذا قدمت بين يدي أمام الله عز وجل ؟ أما أكلنا ، وشربنا ، وسكنا ، وتزوجنا ، وأنجبنا ، وعملنا ، وكسبنا الأموال ، ثم غادرنا الدنيا فهذا شأن الناس كلهم ، هذا شأن الناس جميعاً في كل بقاع الأرض ، أما ماذا قدمت ، هل تركت علماً ؟ هل تركت مشروعاً خيرياً ؟ هل لك بصمات في الحياة الإسلامية ؟ هل دعوت إلى الله ؟ هل لك عمل طيب ؟ هل لك حرفة أتقنتها ، ونفعت بها المسلمين ؟ هل ربيت أولاداً تربية صالحة ؟ هل ربيت بناتك تربية إيمانية إسلامية ؟ هل لك زوجة أخذت بيدها إلى الله عز وجل ؟ ماذا فعلت ؟ هذا السؤال يجب ألا يغيب عن أذهاننا جميعاً : ماذا قدمت للآخرة ؟
فهذه عاشت ثلاثين عاماً ، وعاشت مع رسول الله ثمانية أشهر ، تذكرون أن سيدنا زيد الخير لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام رحب به وقال : من الرجل ؟ قال : أنا زيد الخيل ، قال : بل أنت زيد الخير ، قال له : والله يا زيد ما وصف لي رجل فرأيته إلا رأيته دون ما وصف إلا أنت يا زيد ، لله درك ، أخذه إلى البيت ، وقدم له وسادة ليتكئ عليها ، عمر إيمانه ساعة ، قال : والله يا رسول الله لا أتكئ بحضرتك ، قال : يا رسول الله أعطني ثلاثمئة فارس لأغزو بهم الروم ، قال له : لله درك يا زيد ، أي رجل أنت ! وغادر النبي إلى بلده ، وفي الطريق توفي .
صحابي جليل بنواياه الطيبة ، وبرغبته في نشر الحق وصل إلى ما وصل إليه في ثلاثة أيام ، هناك شيء يسمى حرق مراحل ، الزمن لا قيمة له إطلاقاً ، سحرة فرعون أناس جاءوا ليبطلوا عمل سيدنا موسى ، هم سحرة عندهم أساليب ، وعندهم أنابيب مطاطية فيها زئبق وضعوها على سطح ساخن ، فالزئبق تمدد فتلوت هذه الأنابيب كأنها أفاعي تسعى ، أما حينما ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، هناك عرفوا أن هذا نبي ، وليس بساحر .
(سورة طه)
يعني تصور فرعون ، وما أدراك ما فرعون ، فرعون الطاغية ، فرعون البطاش يقول له إنسان من أتباعه :
أين المراحل ؟ دقائق من سحرة إلى صديقين ، فلذلك هذا التعليق أتفه أعمار الإنسان عمره الزمني ، لكن أعظم أعماره عمره الإيماني المفعم بالأعمال الصالحة ، وحجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، العمل الصالح الذي لا علاقة له بمصلحتك ، ولا ببيتك ، ولا بكسب مالك ، ولا بمكانتك ، هناك من يعمل عملاً خالصاً ، هذا المرأة التي سقت الكلب في الصحراء لا تبتغي سمعة ، ولا جاهاً ، ولا مكانة ، ولا خبراً ينشر ، قال النبي عليه الصلاة والسلام : ((غفر الله لها)) ، لأنها سقت هذا الكلب ، لأن عملها خالص لوجه الله ، الحديث الشريف : يا معاذ : ((أخلص دينك يكفك القليل من العمل)) .
الإخلاص شيء عظيم ، أعمال قليلة مع الإخلاص أعظم من أعمال كثيرة من دون إخلاص ، أقامت عند النبي ثمانية أشهر ، وقد توفيت ، وعاشت ثلاثين سنة رضي الله عنها وأرضاها .
إلا أن الكتب فقيرة جداً بالحديث عن هذه الزوجة لقصر مدة عيشها مع رسول الله ، لكن هناك تعليق ثان ، هذا سيدنا عمر رضي الله عنه عملاق الإسلام لما جاءه رسول أحد قواده في نهاوند وقال له : مات خلق كثير أنت لا تعرفهم ، ماذا قال سيدنا عمر ؟ قال : وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم .
أيام إنسان يبتغي السمعة والشهرة والتألق ، وأن يعلو نجمه في سماء الأدب أو العلم هذا أيضاً من الدنيا ، النبي عليه الصلاة والسلام وصف المؤمنين الصادقين بأنهم أتقياء أخفياء إذا حضروا لم يعرفوا ، وإذا غابوا لم يفتقدوا ، فالإنسان إذا ما حصل نصيب من الشهرة ليكن له عند الله شهرة .
دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فوقف له ، ورحب به أشدّ الترحيب ، وقال له : أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه ، قال أو مثلي ؟ قال : نعم يا أخي ، خامل في الأرض عَلَم في السماء .
يمكن أن يكون الموظف الصغير ، معه شهادة متواضعة ، ودخله محدود ، ويسكن في بيت صغير في طرف المدينة ، ولا أحد يعرفه ، لكن الله يعرفه ، لأنه مخلص .
لم يمض على زواجه صلى الله عليه وسلم من حفصة إلا أشهر معدودة حتى أرسل النبي إلى زينب بنت خزيمة يخطبها إلى نفسه ، وما أن يصل الخبر الجليل إلى زينب المهاجرة الصابرة التي أفجعها موت زوجها ...
يعني بالتعبير اليومي كان النبي جبار الخواطر ، في بعض الصفات ليست جميلة ، كانت متأخرة في الجمال ، زوجها استشهد في معركة أحد ، فالنبي عليه الصلاة والسلام منحها هذا الشرف ، وهي أرملة الآن .
وحينما خطبها النبي قالت له : إني جعلت أمر نفسي إليك ، يعني وهبت نفسها للنبي ، وهذا زيادة في التعبير عن بالغ الرضا والامتنان ، وعن عميق السرور الذي غمر قلبها الوديع ، فتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام .
أحياناً يبحث الإنسان عن شكل ، عن قياسات ، عن لون ، لكن أحياناً الزوجة المؤمنة تملأ البيت سعادة ، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام : ((من تزوج المرأة لجمالها أذله الله ، من تزوجها لحسبها زاده الله دناءة ، من تزوجها لمالها أفقره الله ، فعليك بذات الدين تربت يداك)) .
تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان من السنة الثالثة للهجرة ، ولم تمكث عنده إلا أشهر ، ثم توفيت رضي الله عنها .
أَقَلَّتْ كتب السيرة والتاريخ من ذكر أخبار أم المؤمنين زينب بنت خزيمة ، ويعود السبب إلى ذلك الزمن اليسير الذي أقامت عند النبي عليه الصلاة والسلام ، في رواية لم تمكث إلا شهرين فقط ، وفي رواية أخرى أنها أقامت عنده ثمانية أشهر ، ولعلها أمضت هذه الفترة في المرض ، والله تعالى أعلم .
إلا أن هذه الزوجة الطاهرة اسمها في كتب السيرة أم المساكين ، لكثرة معروفها ، لعلكم ترزقون بضعفائكم ، لعلكم تنصرون بفقرائكم ، اللهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني مع المساكين .
ورد في بعض الأحاديث : ((الحزانة في كنف الله ، إن الله يحب كل قلب حزين ، الحزان معرضون للرحمة)) .
تجد الرجل ملء السمع والبصر ، بلباس أنيق جداً ، وشكل رائع جداً ، بيته فخم ، قال الله عز وجل :
(سورة التوبة)
تجد بيته فخمًا ، لكنه قطعة من الجحيم ، وثمة بيت متواضع قطعة من الجنة ، وهنا أذكر قصة من ثلاثين سنة ، حيث دخلت إلى بيت يمكن بالجادة الأولى من فوق ، ليس فيه بلاط ، كله إسمنت ، أثاث بسيط لدرجة غير معقولة ، بل هو أرخص أنواع الأثاث ، والبيت نظيف ، أنا شعرت أن هذا البيت فيه سعادة ، فيه أنس ، فيه تفاهم ، فيه حب ، طفل أنيق مرتب ، جلست على الأرض متكئًا على وسادة من إسفنج ، على بساط بسيط ، ليس في البيت شيء ، لكنه محفوف بالسرور والسعادة .
ومرة أخ من إخواننا الكرام ، وهو طالب علم من بلد إسلامي بعيد قال لي : هل من الممكن أن تزورنا في رمضان ، فقلت له : حباً وكرامة ، البيت متواضع إلى درجة غير معقولة أيضاً ، آخر جادة ، والله أيها الإخوة هناك سرور وتجليات ، وشعور بالأنس لا يوصف ، اللهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني مع المساكين ، ليس مع الفقراء ، ليس مع المتخلفين عقلياً ، لا .. بل مع إنسان مفتقر إلى الله ، من هو المسكين ؟ المفتقر إلى الله ، العبد لله ، المتواضع ، المحب لله ورسوله هذا هو المسكين ، طبعاً هناك جبابرة ، وأقوياء ، وطغاة ، وهناك مساكين ، وأنا أقول لكم دائماً : الأقوياء ملكوا الرقاب بقوتهم ، والأنبياء ملكوا القلوب بكمالهم ، والناس جميعاً أتباع قوي أو نبي ، أتباع القوي يقهرون ، وأتباع النبي يتكاملون ، سلاحهم كمالهم ، وهؤلاء سلاحهم قوتهم .
أوضح مثل ، اذهب إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام ، وقفْ أمامه ، وانظر إلى الألوف المؤلفة ، بالملايين من شتى بقاع الأرض ، العرب أقلية ، من إندونيسيا ، من ماليزيا ، من باكستان ، من الهند ، من الفلبين ، من إفريقيا ، من تركيا ، ومن مصر ، ومن بلادنا ، كل هؤلاء يقفون أمام النبي بتواضع ، وبكاء ، وخشوع ، ماذا فعل النبي ؟ ماذا أعطاهم ؟ ملك القلوب بكماله ، بتواضعه ، بمحبته لله ، لذلك فإما أن تملك القلوب بكمالك ، وإما أن تملك الرقاب بقوتك ، وهنيئاً لمن ملك القلوب بكماله .
طبعاً ليس هناك تفاصيل عن أعمالها الصالحة ، هي في التاريخ أمُّ المساكين ، وقد قال عز وجل :
(سورة الكهف 28)
قد يدعى الإنسان إلى حفل من أعلى مستوى ، وأحياناً يدعى إلى حفل متواضع جداً ، أنا أقول لكم : تلبية حفلات الكبراء من الدنيا ، وتلبية حفلات المؤمنين المتواضعة من عمل الآخرة ، والنبي الكريم يقول : ((لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ)).
(صحيح البخاري )
لو دعاك إنسان إلى مكان بعيد بطرف المدينة إلى كأس شاي فتذهب بنفس طيبة ، بنفس صادقة ، بنفس مخلصة ، فالله عز وجل يكافئك ، وأحيانا تدعى إلى حفل فخم جداً ، لكن ليس هناك سرور ، لأنه مصحوبٌ بالتباهي ، والكبر ، والغطرسة ، والاستعلاء ، لذلك المساكين هم المؤمنون ، اللهم أحيني مسكيناً ، المؤمنون المتواضعون المفتقرون إلى الله عز وجل هؤلاء كن معهم ، واصبر نفسك معهم ، يأمر الله النبي واصبر نفسك :
فإما أن تصبر نفسك مع المؤمنين ، وإما أنك تريد زينة الحياة الدنيا .
عيينة بن حصن الفزاري ، وكان رئيس قومه ، دخل على النبي الكريم فوجد عنده سلمان الفارسي ، وصهيبًا الرومي ، وبلالا الحبشي ، وغيرهم من ضعفاء الصحابة ، وعليهم ثياب خلقة بالية ، وقد عرقوا فيها ، فقال عيينة : إن لنا شرفاً ، فإذا دخلنا عليك فأخرج هؤلاء ، فإنهم يؤذوننا ، واجعل لنا مجلساً ، ولهم مجلساً ، فنزل قوله تعالى :
المؤمن له عند الله مكان كبير ، ومقام عظيم .
أي لا تتجاوزهم ، ولا تزدريهم .
لا تطع من أعرض عن القرآن ، واتبع هوى نفسه .
أي ضائعاً ، هذه آية مهمة جداً :
قد تأتي إلى مسجد ، وتجلس على الأرض ، وقد تتعب من الجلوس على الأرض ، وقد تكون مدعواً إلى حفلة بالمجتمع المخملي كما يقولون ، فتؤثر بيت الله ودرس علم على هذه الحفلة ، فأنت ممن تنطبق عليهم هذه الآية :
ليس غريباً لمن يصحب النبي عليه الصلاة والسلام أن ينشأ على حب المساكين ، والتقرب إليهم ، والإحسان والكرم .
من حيث حب اليتامى ، والمساكين ، والأعمال الصالحة كانت زينب بنت خزيمة من أول زوجات النبي عليه الصلاة والسلام في حبها للفقراء والمساكين .
والحمد لله رب العالمين
***